بيان قصيدة الشعر

المقاله تحت باب  مقالات و حوارات
في 
26/07/2007 06:00 AM
GMT



الرؤيا:

عـندما احـتاجت أمُّنا الأرض رؤية جسدها المنبسط ممـتلئاً بالحياة, انسكب الماء من قلب الغيب، رَطَّبَ شفاه الطين، فابتدأت الحياة بكلمة أولى، الإنسان، نطق الطين كلمات أخرى كل واحدة منها صارت مخلوقـاً، واكتمل النطق، فتفاضلت الكلمات في ما بينها، أفضلها حكمةً يكون ( سيّـداً ) لها، أميرها، المتصرف، كان الإنسان هذا السيد الجليل، أول الكلمات، لقد وضعت الحكمة يدها على رأسه وباركته ورفعته على كل مخلوق.

(قصيدة الشعر) هي هذا الإنسان المبارك، النص المختار، الذي اصطفته المفاضلة فحمل ثقل الاختيار.

 

ضرورة الوجود:

إن التعاقب التاريخي المكون لفقرات التصاعد الحضاري يحتم ظهور حركات فنية أو فكرية في كل مرحلة من مراحله، والحركة التي تولد من حتمية الاحتياج التاريخي لوجودها، تكتسب قدرة الشروع بمزاولة الإضافة إلى السابق ــ بما هو قيِّمٌ ــ وتخدم استمرار النمو الثقافي.

وعلى هذا، فإن حتمية تاريخية طبيعية أنجبت حركة( قصيدة الشعر )في مرحلتنا هذه، ساعد في ظهورها هاجس تأملي قرائي لمستوى السائد الشعري في الوطن العربي، ألح هذا الهاجس على شعراء هذه الحركة بضرورة ارتكازها على رؤيا صادقة مستعينة بالكشف والاستدلال والتحليل،إنَّ ( قصيدة الشعر ) بواقعها التعاملي لا تسعى إلى المغايرة المتشنجة مع القديم،تلك المغايرة التي تكتــسب صفة التضاد المتولدة من رغبة الظهور أو الانتشار بدعوى (خالفْ تُعرَف) التي كانت مرتكز الانطلاقات السابقة لعدة أجيال، فالمغايرة التي تسعى إليها (قصيدة الشعر) تبدأ من الانعتاق من ثوابت الإتباع,وبناء سقف دلالي شعري لـه ملامحه الخاصة يعلو على السقوف السائدة،وإكساب اللغة ولادة مدهشة وجديدة, تمتلك براءة المولد وقيمة الإدهاش الفني, كقيمة أساسية في أي أثر ناجح يبتكر أسلوبه المتمظهر في بنية فنية ضمن علاقات دلالية جديدة لا تحد بحدود ثابتة، لا تطوير فيها, ولا إفساح لمجال إضافة الآخرين إليها من الأجيال القادمة.

ولكي تنبسط أكف الاحتياج التاريخي المطالبة بولادة ( قصيدة الشعر) لا بد من عرض بعض من المسببات السلبية المنتشرة في عناصر الإبداع الشعري وفي السائد الشعري في هذه المرحلة,ولأن فعل النهوض بالمستوى الفني يقع على هذه العناصر الثلاثة,الشاعر و النص والمتلقي, مما يعرضها للمحاسبة المشروعة, وأول محاسبة لابدَّ أن تكون لمزاولات الشاعر.

 

الشاعر :

إن مساعي الشعراء منذ أواسط القرن الماضي أصبحت تتجه نحو البحث عن وسائل سهلة لكتابة الشعر, وسائل انحصرت في أول الأمر في تجربة الانتقال الإيقاعي من البيت إلى التفعيلة, ثم اتجهت إلى رغبة التخلص من المساحة الإيقاعية التي يفرضها ( الوزن ) على الجملة الشعرية, فحدث الاستغناء عنه في نصوص نسبت نفسها إلى الشعر, ولا يشفع لانتسابها إلا مقولة: إن الشاعر قصد أن يمنح هذا النص صفة الشعر, مستندا إلى حق اختيار القصد, وقصده هنا أن يكون ما يكتبه شعراً, حتى وإن خلا من الوزن, إن هذا الفعل يزاول عملية نقل القصد من موقعه الذي وجد من أجله وهو ( المعنى الأدبي ) إلى كيفية الأداء.

إن تخلي القصد عن موقعه يدفع النص إلى المجانية و اللاأدبية, وهذا ما دفع إلى ظهور طوفان الدواوين الذي غرق فيه الشعر وذابت ملامحه وحيويته في مياه حامضة, لقد تخلَّى كثير من الشعراء عن الوزن وهم بفعلتهم هذه تخلوا عن عوامل مهمة للنصِّ الشعري, ولأنَّ مزاولات الشعراء ترافقها بعض الدعوات التي لا ترتكز على وعي قرائي مخلص, فإنَّ الدعوة التي تطالب بالتخلي عن الوزن, تُشيعُ أنه من الإيقاعات التي لا تلائم عصرنا, وأنه عندما وُجد وُجِدَ من خلال إيقاعات الحياة اليومية للأوائل – حياة الصحراء – وهو أقرب إلى مشية الإبل و الحدو عند سفرهم، وهو أي الوزن إيقاع يلائم حياتهم القديمة!!

ولو طلبنا منهم إثبات هذا الرأي علمياً من خلال البحث لوجدنا أن النتيجة تثبت أنه مجرد افتراض افترضه بعض النقاد لسبب وجود الأوزان وكيفية نشأتها عند العرب، وهو ليس دليلاً قاطعاً على نشأتها، إذ يغيب عن أذهان الدعاة لهذا الافتراض أن الوزن هو حصيلة الإمكانيات الصوتية للغة، فالبحور العربية هي من حصيلة هذه الإمكانيات الصوتية في اللغة العربية، وكذلك يمكن أن يقال هذا عن الأوزان في أشعار الأمم الأخرى. وإن اختلاف الانتظامات الإيقاعية للوزن بين لغة وأخرى يؤكد أنه متولد مباشرة من الإمكانيات الصوتية لكل لغة، ولأن اللغات تختلف في بناها الصوتية فاختلاف الأنظمة الإيقاعية للوزن أمر طبيعي.

إنَّ تخلي الشعراء عن الوزن أفرز انقسامات ذوقية فأصبح ( الإشكال الشكلي ) مسيطراً على جانب كبير من همِّ الشاعر, بدل أن يُوجَّهَ الهمُّ الشعري نحو عناصر التفعيل في المعنى الأدبي،وقبل أن يتم التوصل إلى حل هذا ( الإشكال الشكلي ) انعطف الشعراء العرب نحو عوالم التلبس بالأفكار الفلسفية الغامضة وهيمنة الغرائبية التي لا تمنح المتلقي أيَّ شيء،فأصبحت النصوص الشعرية عبارة عن توليفات لفظية مبهمة خالية من أي معنى أدبي،ولا نستبعد تأثير الحركات الغربية المنقولة على الشعراء العرب فهو من أهم عوامل الانعطاف السلبي نحو تقليد المستورد بالتفكير والإنتاج, فمثلاً لم يكن وضع الأسطورة في الشعر العربي إلا شعوراً من الشعراء العرب أن ثمة نقصاً في تراثهم الشعري من جهة عدم تعامله مع الأسطورة، فانكبَّ المشتغلون على إدخالها، وهنا أصبح التسابق على الاستيراد من الغرب والعمل به بأسرع وقت كي يحصل الشاعر المنفذ لهذا على صفة ريادية.

لقد تنازلت أكثر هذه النصوص المنتجة تحت هذه الرغبة عن الجوانب الفنية، فعلى صعيد الجملة الشعرية انخفض مستوى الأداء الاستعاري والإشاري فيها لتحل محله شروح واستطرادات تسمح للأسطورة بالدخول إلى النص. وهكذا توافدت مسميات كثيرة وتجارب عديدة مستوردة، كان على الشعراء العمل بها لمجرد أن دعوات الحداثة والتجديد تريد ذلك.

وعلى ضفة أخرى ثمة مزاولات لشعراء احتفلوا بمكاسب التطبيل الأيديولوجي ورفع اللافتات والشعارات في القصائد، أو استثمار العواطف الدينية، أو السياسية، بنصوص هابطة لا يشفع لها عند المتلقي إلاَّ موضوعها المحرَّم على المعترض النيل منه.

لقد ظلّ الشاعر العربي على هذه الحالة يتأرجحُ بين الاستيرادات من الغرب والاحتياجات الوقائية من مهيمنات القوى في الداخل مما أضعف مقدرته على إنتاج نصٍّ شعريٍّ بمستوى الهمِّ الشعري الملتصق بلحظتهِ التاريخية وبأرضهِ ومجتمعه.

 

النص :

ينطبق بعض ما ذكرناه عن مزاولات الشعراء السلبية على العنصر الثاني ( النص ) بوصفه نتاج فعل الفاعل. إنَّ وقوفَ النصِّ بين الشاعر والمتلقي يوقعه بين عنصرين يختلفان في النية والرغبة مما يجعله تحت مطالب عديدة منها محاولة تثقيف النص الشعري، وهي رغبة تنبعث من الشاعر لتسلط على النص بزجّ المعلومات المستحصلة من فعل الاطلاع من دون الاكتراث بالمتلقي، وقد أنتجت هذه الرغبة نصوصاً مخصصة لفئات معينة تكاد تتوازى بمستوى الاطلاع مع الشاعر، وهذا النوع من النصوص كأنه يكتب من أجل النقاد، مع الانتباه إلى أن نصوصاً أخرى أخذت على عاتقها التوجه للعامة، لقد تجزَّأ النصُّ الشعري نتيجة لتجزؤ رغبة الشاعر وتجزؤ المتلقي أيضاً ـ وإن كان تجزؤ المتلقي ظاهرة قديمة جداً ـ مما أفرز شعوراً جمعياً بعدم المشاركة في استلام النص، وتخلخل الإيصال في عملية التلقي بين المستويات المختلفة، وهذا ما دفع النص إلى دائرة ضيقة في الانتشار والتعايش الفعال في الثقافة بسبب غربته عن مستوى التحصيل الثقافي، وهكذا يموت الإيصال في النص.

إنَّ رغبة التثقيف النصي الناجحة هي التي تقوى على تحويل المستحصل الثقافي إلى شعور يتجلى عند الكتابة متمثلاً حالة في صميم التجربة المعـيشة، مستغنياً عن زج اطلاعات الشاعر بالصيغ الخطابية أو التقريرية بوساطة الجمل الإخبارية المبتعدة عن حيوية المجاز, إن الشعر قادر على استيعاب المستحصل الثقافي على أنْ لا يفقد حيوية انفعالاته وبراءة وجوده وطزاجة صوره.

 

المتلقي:

إن أفعالاً أخرى تسمم وعي العنصر الثالث (المتلقي) تلك هي الإشاعة الصادرة عن الشعراء الدعاة، فلكي يكون ما يدعون إليه يقيناً جمعياً فلا بدَّ لهم من إشاعة تشويهات للأسس التي يرتكز عليها النشاط الشعري, وإن اتخاذهم لقاعدة يروجون لنتائجها تقول : (إن كل جديد يهدم ليبني)، وفي الحقيقة أن الجديد يبني فوق البناء السابق، إنه النمو، ولن نجد أيّ جديد في أي عصر مضى استطاع أن يهدم ويمحو أثر السابق، وهنا تلتبس الحقائق عند المتلقي حين يقع فريسة لما يشاع، فقد يقع على نصٍّ شعري يدَّعي شاعره أنه كتبه لقارئ مستقبلي، لأن المتلقي المعاصر للشاعر لا يرتقي إلى الرؤيا التي يتضمنها النص..!! وهو يكتبه للمتلقي القادم عبر المستقبل الذي سيفك رموز وشفرات النص..!!

إن دعوات مثل هذه تسببها رغبة التميز من الآخرين، فكيف يضمن أن المتلقي المستقبلي يفهم نصَّه إذا كان من يعاصره لم يتوصل إلى فهمه؟ ثم، ألسنا الآن في عصرنا هذا نمثل المتلقي المستقبلي للشعر العربي القديم؟ ألم يكن هذا الشعر يلقى حضورا عند المتلقي في عصره؟ إنها دعوات تقف في وجهها أدلَّة عديدة لتبطلها، وهي محاولات للتستر ناتجة من خواء الموهبة ونضوب ملكة القول الشعري لدى الشاعر، متكئة على أعذار التجديد. وينسى من يعمل بهذه الدعوات أن التجديد هو إضافة مؤثرة في عصره, ولا يعني أن يكون النص مبهماً أنه جديد.

لقد شاركت هذه الدعوات في عزوف المتلقي عن قراءة الشعر، وهولا يحمل وزر هذا العزوف وحده، وقد لا نبالغ عندما نقول إنها محاولات لتشويه صورة الشعر العربي الحديث عند المتلقي، فهو مستورد أو تقليدي أو مستقبلي، وهو مبهم أشبه بالطلاسم، لا يجد المتلقي في نفسه أي أثر عند قراءته لنص شعري من هذا النوع، ولأن عملية اصطدامه بالنص تكون حالة اكتشاف لـه، يتخذ كشفَهُ درجة من الوعي تعمل على إظهار رغبة أن يكون هو من توصل إلى هذا القول الموجود في النص الشعري الناجح، وأن اندهاش المتلقي بالتوافق بين دواخله وبين ما يعرضه النص من معنى أدبي، تكون محركاً أساسياً لإنتاج الأثر الفني الذي يستعين بالإشارات والتلميحات الشعرية التي تتجه إلى العالم الداخلي للمتلقي والى الخارج أيضاً، إنه اكتشاف ما أراده المتلقي من الشيء الذي لم يتوقع ما يريده فيه، إنها سمة الحياة الدائمة في كل قراءة للنص الشعري، وليس ذلك إلا لأنَّ النصَّ يمتلك عناصر تؤهله للاستمرار عبر الزمن, إنه الشعر القادر على إخراج الإنسان من سكونيته وزمنيته نحو فاعلية روحية متسامية تلامس المغيب والمخفي، وكل شيء يستحيل تحصيله في الواقع يكاد يكون في قبضة اليد هنا.

(قصيدة الشعر) المصطلح والمفهوم

دواعي استدعاء المصطلح:

كان لمصطلح ( قصيدة الشعر ) حضور لدى عديد من نقادنا المعاصرين، إلا أن نسبة شيوعه ظلت ضيقه بفعل ما أراده لـه النقاد عند استدعائه كمؤشر يشير إلى النصوص الموزونة التي تقف قبالة ما ظهر من نصوص (قصيدة النثر) فكان أن جرد هذا المصطلح من أي سمة فنية سوى وجود الوزن ([1])، إلا أن موقفنا التعاملي الجديد في مشروعنا قام بترحيل هذا المصطلح من حالته السابقة إلى مفهوم محمّـلاً بقيمة ما نريده من الشعر، ليجد له مكاناً يقف فيه داخل متن الشعر العربي.

ومما يثير الانتباه في مصطلحنا هذا ورود كلمة (قصيدة) مضافاً إليها كلمة (شعر)، ذلك لأن الفهم الشائع عن كلمة قصيدة بأنها تعني الشعر، وهذا الفهم الذي ساد لفترة طويلة رغم خطئه نتج عن قصور في القراءة النقدية لهذا المصطلح في تراثنا، فلم تكن القصيدة عند الأوائل تمثل الشعر دوماً. فبمراجعة أي معجم يتبين أن كلمة (قصيدة) تمتلك شرطاً هو أن يكون لها مساحة عرض قرائي أو كتابي, أي عدد من الأبيات أو الأشطر وما لا يقل عن (7) أبيات. وما قلَّ عن هذا العدد وصف عند القدماء بتوصيفات أخرى مثل القطعة الشعرية أو النتفة أو الرباعية أو البيت اليتيم. وهذا يعني أنَّ هذه التوصيفات تُعدُّ شعراً ولا تُعدُّ قصائد،مما يوصلنا إلى نتيجة أنَّ الشعر يمكن أن يوجد خارج القصيدة، كما أنَّ كلَّ ما زاد زيادة مفرطة صنف في ما بعد تصنيفاً آخر هو القصيدة المطولة. ولم يكن هذا الفصل محصوراً بأدبنا العربي إذ أن إشارات كثيرة ترد عند شعراء وأدباء غربيين قديماً وحديثاً تجعل للقصيدة مساحة عرض تفي بمتطلباتها الفنية، ويظهر لنا أيضاً، أن مساحة العرض للنص الأدبي، هي من عوامل التفريق بين النصوص في جميع الأجناس الأدبية الأخرى. فلم يكن التفريق بين الرواية والقصة والقصة القصيرة يرتكز على الخصائص الداخلية فحسب، بل كانت مساحة العرض للنصِّ عاملاً أساسياً في التفريق بينها، عاملاً يؤثر على جوانبها الداخلية ويتدخَّل في خصائصها الفنية.

ولا يمكن الاعتراض على أن القصيدة في كل الأدبيات العالمية حازت على شرط آخر، في أن تكون ضمن تنظيم إيقاعي مهما كان نوعه. وكذلك لا اعتراض على أنَّ القصيدة هي نصٌّ مولّد للبنى الدلالية المتكاملة في سعيها للحصول على سمات الوظيفة الفنية، وبوجود نصوص كثيرة تمتلك كلا الشرطين ــ مساحة العرض والتنظيم الإيقاعي ــ إلاَّ أنَّها تعاني من تشظي بنيتها الدلالية، أو تكون ساعية إلى أغراض نفعية إخبارية ليست من صميم الوظيفة الفنية، وهذا يجعلها مستبعدة عن الانتساب إلى صفة (قصيدة).

فالقصيدة ليست شعراً دائماً، وكما ذكرنا وأكدنا سابقاً إنها مكان وزمان للحدوث الشعري / النثري تمتلك هوية وجودية فنية خاصة, وأن الشعر يمكن إيجاده خارج مساحة القصيدة أيضاً. ولأنَّ خلطاً خاطئاً يحدث بين الشعر وبين القيمة الفنية للعمل الأدبي يجعل وجود نص نثري يمتلك إمكانيات جمالية عالية في جمله وتعابيره واستعاراته يحسب على أنه شعر، وهذا أما مجاز يقال لتعبير عن الإحساس بجمالية النص النثري, أو سوء فهم انتشر في الوعي الجمعي ساعد المجاز السابق في انتشاره.

وينبغي إيراد تعريف أو تحديد لهوية القصيدة في (قصيدة الشعر) لأجل أن تكون الرؤيا واضحة فالقصيدة هي (متناهٍ شكلي مقترن بزمن قرائي محدود في لا متناهٍ دلالي عبر تنظيم إيقاعي مؤسس في بنية كلية موحدة تنجز وظيفة فنية معتمدة في مادتها على مكونات الشعر أو النثر).

إن القصيدة في حالتها هذه تشبه المسرحية فإذا كتبت بالشعر أصبحت ( مسرحية شعرية ) وإن كتبت بالنثر أصبحت (مسرحية نثرية)، (فقصيدة النثر) في مفهومنا تنتسب إلى النثر. إنها تمثل تحقق القصيدة في المتن النثري كما تمثل (قصيدة الشعر) تحقق القصيدة في المتن الشعري، ولا تعطي القيمة الجمالية لقصيدة النثر الحق في انتقالها من متن النثر إلى متن الشعر، وذلك لأن جميع الأجناس الأدبية تشترك في إنجاز القيمة الجمالية.

ولأنَّ ( قصيدة الشعر ) تنقسم إلى فرعين هما ( قصيدة البيت ) و( قصيدة التفعيلة ) يصبح لزاماً علينا إيضاح الفهم المتعلق بكل من هذين المصطلحين.

 

 

(قصيدة البيت) و(قصيدة التفعيلة):

إنَّ ولادة أيّ مصطلح أدبي، ناتجة عن ضرورة استدعتها المرحلة التاريخية المتزامنة مع ظهور صنف أدبي جديد أو متطور عمّا سبقه تطوراً فنياً.

في بداية القرن الماضي كانت كلمتا ( شعر ) و( نثر ) تؤشِّرانِ الفارق النوعي لكلٍّ منهما,فكلمة شعر تؤشر ما هو موزون مقفى, إلى أن ظهر ( الشعر الحر ) في منتصف القرن الماضي، وأثبت هذا المصطلح مع نصوصهِ المنتمية إليه شرعية إبداعية جديدة. إن من مؤثرات ثبوت هذا المصطلح أنه فصل بين نموذجين هما الشعر الحر والشعر الذي كان يكتب قبل هذه الدعوة والذي سمي في ما بعد بـ ( الشعر العمودي ). هذا المصطلح الذي استدعته رغبة التمييز بين النوعين، فما كان لهم إلا الاستفادة من الجذر التاريخي ( عمود الشعر ) واستخلاص جانب واحد منه هو الجانب الإيقاعي ( الوزن) كمؤشر على صيغة ( العمودية ). ومن المعروف والثابت لدى جميع الدارسين والمتأدبين أن عمود الشعر هو مذهب أسلوبي يرتكز على قيم فنية اجتمعت خصالها في الشعر العربي القديم, وأن تراثنا الشعري ضم عدداً كبيراً من الشعراء الخارجين عن هذا المذهب, إلا أن هذا المصطلح كان بمثابة إسعاف فوري للجرح الذي سببه ظهور الشعر الحر، ولم يكن علاجاً كاملاً لا على مستوى التصنيف الاصطلاحي ولا على مستوى القيمة الفنية. وعلى الطرف الثاني من هذا الصراع كان على مصطلح الشعر الحرّ أن يجد جذره التاريخي مما دفع بعض الدارسين إلى مدّ نسبه إلى الدوبيت أو ( الشعر الحرّ ) في الغرب, وبعدها استبدل هذا المصطلح بآخر هو: ( شعر التفعيلة ).

إلا أن الطرف الأول من الصراع ظل مطمئناً إلى مصطلح (الشعر العمودي) على الرغم من وقوعه في التشويش، فإن أريد به تأشير مذهب أسلوبي في كتابة الشعر، فإن أغلب النصوص المعاصرة التي تسمى به فارقت الأسلوب الواحد، وخالفت وغايرت الأسلوب القديم في الموروث العربي. فكيف تسمّى عدة أساليب في كتابة الشعر بمصطلح واحد؟

وإن أريد به الإشارة إلى الجانب الإيقاعي فإن دلالة الكلمتين اللتين يتشكل منهما المصطلح (الشعر ـ العمودي) لا تؤشر الجانب الوزني من القضية. فكيف يكون لهذا المصطلح أن يبين أن نصاً ما مكتوب وفق النظام الوزني الذي أثبته الخليل.

لذلك فإن مصطلح ( قصيدة البيت ) يكتسب ضرورة حضوره من جوانب عديدة. فهو يؤشر وجود حالة فنية خاصة داخل متن الشعر يتمثل في كلمة ( قصيدة )، وكذلك فإنه يثبت ارتكاز النص على عنصر الإيقاع المعروف (الوزن) ولبنته الأساسية التي تنبني بتكرارها بنيته الإيقاعية، وهذه اللبنة هي ( البيت ) ([2]).

وقد نصطدم بفكرة أن نصوص الشعر العمودي أو عمود الشعر تمتلك اللبنة نفسها التي ترتكز عليها البنية الإيقاعية لـ ( قصيدة البيت ) فلماذا لا تسمى النصوص القديمة أيضاً بهذا المصطلح الجديد؟

إن الاصطدام بهذه الفكرة يظهر بحق امتياز ( قصيدة البيت ) مصطلحاً ونصاً عمّـا هو سابق،فباسترجاع تاريخي سريع يتبين لنا وجود أصناف متعددة في التراث الأدبي العربي حملت اصطلاحاً جديداً على الرغم من ارتكازها على البنية الإيقاعية نفسها، فالموشح مثلاً هو نوع شعري متطور إيقاعياً وموضوعياً وغرضياً عن الشعر الذي سبقه، إلا أن القدماء منحوه اصطلاحاً جديداً يفي بحاجة تأشير إمكانياته الفنية الخاصة به، داخل متن الشعر العربي،فلذلك لا يمكن تسمية الشعر المكتوب سابقاً بـ ( قصيدة البيت ) لأنَّ استدعاء هذا المصطلح ناتج عن وجود ميزة فنية أسلوبية وتعاملية مختلفة من الداخل مع وجود البنية الإيقاعية نفسها المتولدة من تكرار لبنته الأساسية ( البيت ).

وعي التعامل الشعـري لدى الشاعر :

لا يعني انتماء الشاعر إلى هذه الحركة تسليماً أن كل ما يكتبه من شعر هو من (قصيدة الشعر) وكذلك لا يعني عدم انتمائه لهذه الحركة خلو شعره من نصوص تنتمي لهذه الحركة.

فقضية ( قصيدة الشعر ) قضية نصٍّ يمتاز عن غيره من نصوص الشعر، وهذا يعني أيضاً أنَّ ما يكتب بالوزن لا يعد شعراً دائماً، فـ ( قصيدة الشعر ) التي تنحي أي نص ينقاد إلى هيمنة الوظيفة الإخبارية المتمثلة في المواضيع والأغراض النفعية والإخبارية المباشرة بمميزاتها الخطابية والتقريرية والمجانية. هذه النصوص التي تخلو من الركون إلى وظيفة وهدف فني ليس لها القدرة على تحويل المهيمنات السابقة إلى رسالة أدبية تترك أثرها الخالد.

ولعل التعامل الذي يفرضه الوعي المتكون لدى الشاعر كفيل أن يفرق بين النصوص، إذ يستند منهجنا في التفريق بينها على عاملين هما:

أولاً: النصوص التي لم تتوافر فيها صفات القصيدة.

ثانياً: النصوص التي توافرت فيها جميع صفات القصيدة.

أما النوع الأول فتنطوي تحته: ( نصوص النثر ) ملتزم بالوزن, وهي اذ تتخلى عن الوظيفة الفنية فإنها تفقد شرطاً من شروط القصيدة, وكذلك فإنها تفقد شروط الشعر فلا تعد شعراً ولا تعد قصيدة أيضاً. و( نصوص الشعر), وهي تلك النصوص التي انحسرت في مساحة عرض صغيرة أو اختلطت وظيفتها الفنية مع الإخبار حيث يظهر جمالها في مقاطع صغيرة يمكن فصلها عن باقي النص من دون أن يضر ذلك سياقها. هذه الالتماعات المنتشرة في نصوص الشعر بكثرة لا تجعل من النص الذي يعدُّ ( قصيدة ) ( قصيدة شعر ).

أما ما ينضوي تحت العامل الثاني، وهما ( قصيدة الشعر ) و ( قصيدة النثر ) فالأولى نحن الآن بصدد عرض أهم مميزاتها، أما الثانية فهي كما ذكرنا تعد ( قصيدةً ) ضمن متن النثر.

هذه التفريقات التي إن ثبتت في وعي الشاعر, منحته تعاملاً جديداً مع الكتابة الشعرية الموزونة, ودفعت عن عينه غشاوةً كانت تمنعه من رؤية موقع النص من الشعر والنثر.

مقومات قصيدة الشعر

( الإيقاع ): صوت الدلالة الشعرية:

إن من أهم مقومات الأصالة الفنية التي يقف في مقدمتها مقوم لا يمكن استبعاده او إلغاء وجوده, لأنَّه من عناصر اللغة التي ترتكز عليها في تكوينها, هو الصوت منطوقاً أو ملموساً في الذهن أو مخزوناً في الكتابة, فالشاعر في ( قصيدة الشعر ) لا يستبعد أهم مكونات الصوت وهو الإيقاع متعاملاً معه تعاملاً تفاعلياً بنوعيه ( الخارجي والداخلي ) غير أنَّ الأوَّل قد هيَّمنت عليه مفاهيم تجرده من امتلاك أي فعل إشاري أو دلالي مع أنه يمثل دلالة تخدم النص على مستوى التعرف الفوري بنوعه وإشعار المتلقي فور شروعه بالقراءة أن ثمة فارقاً نوعياً إيقاعياً في هذا النص, تفقده نصوص أخرى. ولا يمكن إهمال ما يتركه الوزن من أثر نفسي وذهني عند المتلقي, بإيجاده لمسار من التشابهات الايقاعية ترافق استلام الدلالة المطروحة في النص, وللوزن فعل آخر ينجزه هو الإيجاز في القول الشعري من خلال مساحته الإيقاعية المحدودة, هذه المساحة التي تختفي عند إهمال الوزن فيتسرَّبُ الإطناب إلى الجملة الشعرية دافعا بالنص نحو النثر الذي يعتنق الإقناع بالمعنى لا التلميح به. إن الإيجاز الذي ينجزه الوزن يمنح الجملة صفة التلميح لا التصريح مما يدفع الجملة إلى دخول عالم الشعر المرتكز على الإشارة إلى الأشياء لإثبات وجودها أو تثبيت صفاتها. إن للوزن ــ فضلاً عن كلِّ ما ذكرناه ــ إمكانياتٍ تعبيرية ًيستعين بها المعنى في أدائه, ثم إن إيقاع الوزن يتداخل مع الإيقاع الثاني (الداخلي) ليكوّن الإيقاع العام للشعر. ولرغبة الدلالة الشعرية بالتمظهر الصوتي([3]), فإنها لن تجد أشمل من هذا الإيقاع لتمظهرها, إذ يصبح الإيقاع ( صوت الدلالة الشعرية ) تحركه تحريكاً خاصاً ومغايراً لما هو سائد من مقول / مقروء, ولأن إمكانيات إيصال اللغة ــ دون صوت كلامي / نطقي, أو قرائي / ذهني ([4]) ــ غير ممكن, فإن الإيقاع الذي يتميز به الشعر يعمل على امتلاك الدلالة الشعرية لصوت خاص بها. إن ( قصيدة الشعر ) لا تتعامل مع الوزن بمرجعية سلفية خاوية من المعنى, بل بجعل ما ينتجه الوزن من شكل بفرعيها ( قصيدة البيت ) و( قصيدة التفعيلة ) شكلاً للدلالة الشعرية, أي بإحداث نقلة من الثبوت إلى التهيؤ الدلالي،وحيث يمثل ( الإيقاع ) الجانب الحقيقي المحسوس في الشعر, تمثل ( الدلالة ) الجانب المتخيل فيه.

فضلاً عن ذلك فإن الشعور المتولد لدى المتلقي من إحساسه بانتقال العبارة من مستوى إيقاعي منخفض في النثر إلى مستوى إيقاعي مرتفع في الشعر, يجردها من ماديتها التي اكتسبتها نتيجة لاستخدامها في اللغة الساعية إلى الإفهام, وإن إيقاع الوزن يذهب من ذهن المتلقي حالة التركيز والفهم الكامل. ويحدث هذا عبر انتظاماته الإيقاعية, وذلك نتيجة للإحساس بوقع الإيقاع المرتفع, الذي يشاطر الدلالة, فتكتسب العبارة شفافية لا واقعية, أي تتحوَّل إلى إشارة إلى الواقع لا تلبية لاحتياجاته.

وينبغي الانتباه إلى وجود الإيقاع الداخلي في الشعر والنثر وعدم انفراد أحدهما به, مثلما ينفرد الوزن بالشعر بفاعلية جمالية عالية, مانحاً إياه صفة إضافية للجمال عن مادة النثر,أضف إلى ذلك أن الوزن هو تنظيم إيقاعي فوقي يمكن عزله ـ وتأشير مادته ـ عن مادة الشعر,على الرغم من تولده منه, بينما لا يمكن عزل التنظيم الإيقاعي الداخلي للنثر الفني عن مادته, لأنه متولد مباشرة من أصوات الأحرف وانتظامها في الكلمة والجملة معاً وتكرار الألفاظ و الأشطر وتوازيها, فهو على هذا تنظيم بدائي, بينما يكون الوزن تنظيماً أكثر تطوراً منه. كما أن التنظيم الإيقاعي الداخلي, يحاول الابتعاد عن مادة النثر المنسابة, وبدرجة أقل,بينما يحقق الوزن بعداً شاسعاً عن انسيابية النثر, لذلك فإن ما يحصل من استخدام الإيقاع الداخلي في النثر لا يشكل إلا مغايرة طفيفة عن استخدام الإيقاع الخارجي في الشعر,كما أن هذا الإيقاع ــ الداخلي ــ في حقيقته هو إيقاع يحمل طابعاً سردياً متلائماً مع درجات الانسيابية في مادة النثر, بينما مادة الشعر مرحلية انتقالية لا تمتلك انسياباً حقيقياً وفقاً لطبيعتها الإشارية, إلا بإدخال الوزن ليوفر الانسيابية المفقودة بدرجة إيقاعية أعلى مما يوفر الإيقاع الداخلي؛ لأن ( الوزن ) إيقاع فوقي, والإيقاع الداخلي غير مقتصر على النثر الفني أو قصيدة النثر لوجوده قبل هذا في الشعر العربي القديم وبدرجة من التنظيم المتناسق, يمكن رصده حتى في المدونات الشعرية الحديثة المكتوبة بالوزن.

المجاز والأداء الشعري المتجـدّد:

كما تحدثنا عن المقوم الأول ضمن النتائج المقرونة بالتطوير المستمر, فإن الحديث عن المقوم الثاني المتمثل بالأسلوب يأخذ بعداً آخر بعد جعله هدفاً لتجاوز العلاقات الانزياحية, مما يضمن وثوق الأداء الشعري من إمكانياته ومعطياته الواسعة من دون الإخلال بوحدة النص التي ترتكز على بنيتي ( الشعور ) و( الرؤيا ) اللتين لا تخلوان من بعد فكري, يمكن استلامهما من العوامل التركيبية والتحليلية التي لا تفتقد إلى الإدهاش شرطاً لانبعاثها من الروح الباثة,التي تمثل إنزياحاً وجودياً عن العالم المادي, متجاوزة بطاقاتها الأسلوبية والتعبيرية حواجز المنع والكبت المترسبة من صياغات عالقة بالذاكرة إلى الانطلاق الفعلي من الحاضر بالتباسات الماضي/ المستقبل، من دون الانصياع لمفردات المعاصرة التأثيثية, وذلك بالانفتاح الكبير على خزائن اللغة التي أصبحت تمثل وعيا فنياً محملاً بجميع مفرداتها المستهلكة و غير المستهلكة تعبيرياً, بإكساء هذه المفردات أبعاداً تشي بعدم المبالاة لواقعها المادي الجاف, محدثة باشتراط الإدهاش تأثيراً مشابهاً لدى المتلقي, تشعره بالانزياح عن العالم المحيط ولو آنيّاً, إلا أن ما يترسب من آنية التأثير لا يفنى عند المتلقي الواعي, إذ يخلق هذا الترسب نتاجا فكريا وروحياً، ومع كل هذا فليس المجاز هو العنصر الفاصل بين الشعر والنثر الفني، لتحققه الناجح في كل منهما. مع الانتباه إلى قوة الأثر النوعي الذي يتركه المجاز المختلط مع الإيقاع الوزني عن المجاز الواقع في متن النثر الذي يكون فيه المجاز حاضراً من أجل غاية أخرى غير إحداث الأثر الانفعالي والتأثيري المباشر عند المتلقي, إن الأخذ بزمام إضافة مجازات جديدة لا يعني الانكباب الأعمى على توليد الانزياح في اللغة, الذي يدفع النصَّ إلى الوصول إلى ظاهرة اللامعنى واللاموضوع,إذ تقع نصوص كثيرة فريسة لرغبات التوليد المجازي والإعجاب الشديد من قبل الشاعر بالجمل الاستعارية التي تمثل لغةً يغيب عنها المرشد لوجودها بديلاً عن التصريح بالمعنى. إن نصوصاً كثيرة تحتشد بالمجازيات المجانية لا يمكن الوصول إلى هدف أدبي فيها سوى حضور الغرائبية والغموض غير المجدي يدفع المتلقي إلى طرح النصّ ولا يصل الشكُّ إلى أنَّ من أهمِّ السمات الأدبية توليد علاقات جديدة بين مكونات الوجود المادي والمعنوي, هذه العلاقات لا يكون هدفها التوليد المجازي بحد ذاته, إنما إيجاد سياق لغوي يحتمل إيصال الشعور أو الفكرة إلى المتلقي.

 

نفي الغرض من المعنى إلى التحريض:

لا يقتصر التعامل في ( قصيدة الشعر ) على ما ذكرناه, فالمضمون النصي يتعلّقٌ بالمقومات السابقة بشدّة, ولا يَغفَل الرغبة في تعدد الدلالة لا في انحسارها وارتكازها على الأغراض الشعرية القديمة, هذه الأغراض التي أخذت بالانفتاح عبر مراحل زمنية مختلفة في واقعها الاجتماعي والمعرفي والذوقي([5]), و تسنى لنا الإمساك بتحولها النهائي إلى مسبب ( واخز ) للشروع بالقول الأدبي والشعري على الخصوص المتجاوب مع رغبة الوصف الأدبي في الشمول والبروز النوعي، بفنية متعالية عن السائد والسابق من المضامين الثابتة والمحدودة سلفاً مترافقة مع رغبة الاختيار الموافق لمقدار الألم والفرح الروحي بمنظور أدبي, إن من المواضيع التي تتناولها النصوص الشعرية ما يكون مهيأ مسبقاً لدى الشاعر, موضوعاً يلبِّي رغبة الجمهور, يدغدغ المشاعر الدينية أو السياسية أو الجنسية, وقد تظهر المحاسبة النقدية لمثل هذه النصوص جوانب الخلل والضعف فيها, مما يجعلها تكتسب صفة المخادعة, إلا أنَّ نفي العاطفة الجمعية لدى الجمهور تعني خطراً آخر, خطر الغربة عنه, غربة لا يجد المتلقي حلاًّ لها سوى نبذ النص الذي لا يشاركه عاطفته وهمومه, وهنا يقف الوعي بالتعامل مع الموضوع,ليصف دواء لكلتا الحالتين, يقع العبء كلُّه في المعالجة على الشاعر, لينجز نصاً تتوفر فيه عوامل التواصل الموضوعي مع المتلقي – على اختلاف درجاته – واحتفاظه بعناصر الشعرية العالية في الجملة والبنية الكلية, إن الاستسلام للأغراض الشائعة في الشعر العربي يوقع النص الشعري تحت هيمنة قسرية لا يمكن الفرار منها دائماً, وإنَّ إمكانية الإفلات منها تكمن في تحويل الغرض إلى موقف أو محرض أو باعث أو مسبب للكتابة من دون إظهاره في النص إظهاراً كلياً.وهذا لا يعني الوقوع في دائرة اللاموضوع. هذه الدائرة التي طوقت نصوصاً كثيرة وأطفأت ضوءها فباتت معتمة لا تعني أحداً, ولكي يجد أصحاب هذا النوع عذراً لهم راحوا يروِّجون لمفاهيم تدَّعي أنَّ النصَّ لم يكتب للآخر, أو كتب في مجال معالجة شعرية لفكرة فلسفية, أو موضوع غيبي, أو صوفي…!! وهذه كلها لا تشفع للنصِّ المعتم عندما ينبذه المتلقي ويتخلَّى عنه.

إن هذه المفاهيم تلغي دور الشعر في الحياة الإنسانية, وإن كان للفلسفي والصوفي أن يجد طريقه إلى الشعر كموضوع, فعليه أن يكون مؤثراً شعرياً جمالياً, يشرك الآخر في تجربته ولا يحاول عزله عنه.

بسـام صالح مهـدي عـارف الساعدي مضر الألـوسي
محمـد البغـدادي رشيد حـميد الدليمـي نجـاح العـرسان


ملحق بالبيان

كتابة الجملة الشعرية

مغادرة التمظهر الوزني في (( قصيدة الشعر ))

 

كتب العرب البيت الشعري في القصيدة على هيئة الشطرين؛ لأن أغلب الشعر الذي يتداوله الناس في زمنهم كان عن طريق أمرين هما: الحفظ والإنشاد، وكلاهما يتطلب مَرْحَلَة العبارة؛أي: جَعْلِها مراحل متساوية؛ لتسهيل كلا الأمرين.

وبعد أن وضع الخليل الشكل التقطيعي للبيت وتَمظْهَر الوزن بهيئة التفاعيل التي تنقسم إلى شطرين، صار الأمر محسوماً على هذا النحو الذي ساد منذ المرحلة الشفوية وحتى المرحلة التدوينية.

هكذا أصبح الجانب الشكلي / الوزني هو المهيمن الظاهري على هيئة النص الشعري، وقد استعرضنا فيما سبق بعضاً من تعامل الحركات الشعرية التجديدية وبيَّـنـَّا أسباب إنكبابها على التغيير والتجديد الشكليين برغباتها العديدة والمتغيرة من عصر إلى آخر.

وبحضور مصطلحي ( قصيدة البيت ) و ( قصيدة التفعيلة ) اللذين تم شرحهما سابقاً، فاتنا تبيان أن الدعوة لهذين المصطلحين ــ اللذين هما فرعا ( قصيدة الشعر ) ــ لا يعني اتكاء (قصيدة الشعر ) على المهيمن الظاهري الذي ينقسم إلى فرعين محسوسين هما:

1 ـ الشكل البصري.

2 ـ الشكل السمعي.

إنَّ الشكل الأول مرسومٌ على الورقة يحتم الإحالة الفورية بمجرد سقوط النظر على النص المكتوب، وهذه الإحالة تعمل على نقل النص فوراً إلى مرجعية قَبلية شكلية مثبتة من قَبْل؛ لتنهض معها المخزونات المعرفية كافة المتعلقة بهذا الشكل أو ذاك، مما يعرّض النص الشعري إلى عملية هامة في التلقي هي انتمائية وطبقية القارئ.

وأما الشكل السمعي الذي يَحِدث عند الإنشاد والسماع فهو مرتبط في أغلب الأحيان بالعملية التقطيعية للبيت إلى شطرين، فكثير من الشعراء عندما ينشدون البيت الشعري يقفون عند نهايات الشطرين ( الصدر والعجز )([6]) مما يوحي بأن بناء القصيدة معتنٍ بالوزن أكثر من اعتنائه بالدلالة([7]).

إن( قصيدة الشعر ) التي حددت المصطلحين ( قصيدة البيت ) و ( قصيدة التفعيلة ) أرادت أن تبين الفارق النوعي بين الشكلين المنتميين إليها من جهة الإيقاع والوزن في جسد النص ولم يكن هدفها السير على هاجس الإنكباب الدائم على المباشرة بالتجديد من خلال خرق الوزن أو إجراء تعديل عليه أو جعله الحَكْم في شعرية النص .

لذلك فإن الشكل البصري في ( قصيدة الشعر ) ـ بفرعيها ـ لا يُعْنى بترتيب الشطرين أو الأشطر على نهايات الوزن، بل يكون ترتيب الشطر الشعري على وفق انتهاء الجملة ودلالتها، سواء طالت أم قصرت حتى ولو كان بيتاً كاملاً أو كلمة واحدة، أما الشكل السمعي فهو يأخذ بانتهاء الدلالة في الجملة عند الإنشاد ولا يرتكز على النهايات الوزنية للأشطر عند الإنشاد.

ويؤيد مشروعية هذا المسعى وجود التدوير في الشعر العربي القديم وشيوعه في الشعر الحديث بكثرة، وجانب التأييد فيه وقبوله قديماً وحديثاً، إن التدوير هو اشتراك أو انقسام كلمة بين شطري البيت الواحد، مما يدفعنا إلى القول: إن الحركة الدلالية لا يمكن الهيمنة عليها بنهايات محددة إلا بتجزئة مفرداتها، ولا حاجة لنا في هذا التقسيم البصري ([8]) إذا كتبت الجملة الموزونة على وفق دلالتها وانتهاء المعنى المراد منها، ويبقى الجانب الإيقاعي فاعلاً بكل أهدافه مع هذه الحالة أيضاً؛ ثم أن هناك نصوصاً ناجحة قد تنتمي إلى ( قصيدة الشعر ) وتكون متشكلة من نظامي البيت في مقاطع منها ومن نظام التفعيلة في مقاطع أخرى،وهذا مما يدعم المذهب الداعي إلى مغادرة التمظهر الشطري / البيت / الوزني،والتحول النهائي إلى كتابة الجملة لا إلى كتابة الوزن والاعتناء بشكليه البصري والسمعي الثابتين، بل تركهما إذ كانا في عصور الشعر السابقة ضرورة أملتها الحاجة الحياتية ـ كما أشرنا سابقاً ـ أي الحفظ والإنشاد.

ولا بد أن نشير إلى أن شعراء مثل السياب وسعيد عقل ونزاز قباني ومحمود درويش وغيرهم اعتمدوا الشكل البصري (الأيقوني ) في قصائد عديدة كان أساسها الوزني هو البيت ورتّبوها على وفق رغبات مختلفة، فبعضهم لا يمكن أن نجد لهم تفسيراً لسلوكهم هذا إلا أن يكون الشاعر مأخوذاً بإبعاد القارئ عن بصرية البيت التي تحيل إلى مرجعية سابقة،فأغلب تجاربهم لم تراعِ الوقوف عند نهاية الدلالة في الجمل الشعرية([9]).

يقول يوسف حامد جابر: (( لا ينفصل التناغم الدلالي عن الشكلي بأية حال من الأحوال، سوى أننا، بالنظر إلى حركة العناصر، إما أن نعطي الأهمية للدلالة في الحالة الأولى, وإما للشكل في الحالة الثانية)) ([10]).

إن كتابة الجملة الشعرية والوقوف عند نهاية دلالتها هو ما تهتم به (( قصيدة الشعر )) لأن الدلالة هي شغلها الشاغل، وإن فِعْلَ من يكتب شعره بهيئة ( البيت ) لا بإيقاعيته تُظهِر الوزن كأنه مهيمن شكلي على النص لا عنصراً من عناصر التكوين يعمل مع غيره في تكوين الشعرية.



 ([1]) النقاد الذين استخدموا مصطلح ( قصيدة الشعر ) للدلالة على ما هو موزون فقط، نذكر منهم: الدكتور علي عباس علوان في ( تطور الشعر العراقي الحديث ) . الدكتور علي جعفر العلاق في ( حداثة النص الشعري ) . سوزان بيرنار(قصيدة النثر ) ترجمة سعيد مغامس، مصطفى خضر في( الشعر والهوية) وآخرون. تكرر استخدام المصطلح عندهم في مواضع عدة من كتبهم.

 ([2]) ينظر قول الفارابي: ((البيت هو القول الذي حصر بوزنٍ تام )) كتاب الموسيقى الكبير: ص 1088 ــ نقلاً عن الشعرية العربية، أدونيس:ص22. وكتاب عضوية الموسيقى في النص الشعري، يقول د.عبد الفتاح صالح نافع، البيت: (( هو الوحدة الموسيقية للقصيدة العربية)): ص50، ط1، مكتبة المنار، 1985م، الزرقاء.

 ([3]) لا يمكن للدلالة اللغوية أن تكون ظاهرة للحواس إلا بتجسدها في أصوات هي الأحرف والكلمات والعبارات، فالصوت وما يتولد منه كالإيقاع هو حاجة الدلالة لوجود كينونتها وتمظهرها المادي وليس فرضاً خارجياً عليها.

 ([4]) نقصد بأن الصوت يخزن في الكتابة: أي أن الذي يقرأ النص يستنطق أصواته إضافة إلى المعاني، وهذا يحدث حتى عند القراءة الصامتة إذ يكون الصوت مهموساً في الذهن.

 ([5]) من أوائل الذين حددوا أغراض الشعر أبو العباس ثعلب، فجعلها: الأمر و النهي و الإخبار، والاستفهام. وهذه الأغراض الأساسية للشعر تتفرع إلى المديح، والهجاء، والرثاء، والاعتذار، و الغزل، و التشبيب، والتشبيه،والوصف,اقتصاص أخبار. وإن أقدم ما وصلنا من أغراض الشعر في الجاهلية كانت تحصر في ( الهجاء والمديح والرثاء والغزل ) ثم اتسعت هذه الأغراض وتشعبت واختلطت وولِّدَت أغراض جديدة أحصاها بعضهم وجعلها أبو تمام في عشرة أبواب: هي الحماسة، والراثي، و الأدب، و التشبيب/ النسيب، والهجاء، والإضافات، والصفات، والسير، والملح، ومعرفة النساء. وجعلها غيره: الغزل، والوصف، والفخر، والمدح، والهجاء، والعتاب، والاعتذار، والآدب، والخمريات، والأهديات، والمراثي، والبشارة، والتهاني، والوعيد، والتحذير، والتحريض، و الملح، وباب مفرد للسؤال والجواب. وحصرها ابن رشيق في: النسيب والمديح والافتخار، والرثاء، والاقتضاء، والاستنجاز، والعتاب، والوعيد، والإنذار، والهجاء والاعتذار. وورد في ديوان المعاني: أن "أقسام الشعر في الجاهلية خمسة: المديح، والهجاء، والوصف، والتشبيه، والمراثي، حتى زاد النابغة فيها قسماً سادساً وهو الاعتذار، فأحسن فيه. وجعل أبو الهلال العسكري أغراض الشعر: المديح، والهجاء، والرثاء، والغزل والوصف، وتدخل فيها الأغراض الأخرى. ينظر كتاب فصول في الشعر: الدكتور أحمد مطلوب: ص38، منشورات المجمع العلمي، بغداد 1999م. إن هذه الإحصاءات تتباعد زمنياً مما يظهر أن مساحة الموضوعات تتسع وتتشعب من زمن إلى آخر، وعليه يكون تطوير و تغيير الأغراض أمراً مقبولاً إن لم يكن مطلوباً.

 ([6]) الوقوف عند الإنشاد في نهاية العجز يكون إجبارياً بسبب وجود النهاية الإيقاعية أي القافية.

 ([7]) يذكر جواد علي أن هذه السلوك في الإنشاد هو ((من عمل الشعراء المتأخرين الذين أحلّوا الوزن محل الإلقاء)) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام:9 / 133 .

 ([8]) يظهر تقسيم الكلمة بين الصدر والعجز في البيت المدور بصرياً على الورق وكذلك عند التقطيع العروضي للبيت أما عند الإنشاد فالكلمة تقرأ مع سياقها الدلالي من دون أن تجزأ وهذا يدل على غلبة الدلالة في الجملة الشعرية على الوزن وهذا أدعى لكتابة الجملة على وفق دلالتها لا على وفق موقعها الوزني .

 ([9]) ينظر وهم الحداثة، محمد علاء الدين عبد المولى: ص192ـ 130ـ 131،ط1، اتحاد الكتاب العرب، دمشق،2006م.

 ([10]) قضايا الإبداع في القصيدة: يوسف حامد جابر: ص:243، دار الحصاد، دمشق، 1991م.